ذو القرنين شخصية حيرت المفكرين أربعة عشر قرنا و كشف عنها "أبو الكلام أزاد"
كان ذو القرنين من الألغاز التي أراد يهود المدينة أن يحرجوا رسول الله
صلي الله عليه و سلم بالسؤال عنها.. و لكن ما كان الرسول عليه الصلاة و
السلام ليحرج و وراءه ربه ، يسانده و يسعفه بالجواب ، ليخرس ألسنة هؤلاء
الأعداء ، فنزل القرآن الكريم يحكى سؤالهم ، و يجيب عنه ، لا بذكر الاسم
الحقيقي لهذا الرجل ، و لا مكانه ، و لا الأمة التي ينتسب إليها ، و لكن
بذكر المهم من تاريخه و أعماله .
و قد بينت آيات سورة الكهف عقيدة الرجل ، و عدله في حكمه و اتساع ملكه .
لكن ما اسمه ؟ و أين و متى عاش و حكم ؟ لم تتكفل الآيات ببيان ذلك ، لأن
العبرة ليست فيه ، و إنما العبرة و الفائدة تكمنان في ذكر ما تكفلت الآيات
بذكره من أحداث حربية ، و من عدل ، و إيمان . فبقي الاسم موضع تساؤل و
اجتهاد من المفسرين و المؤرخين في تعيينه ، إشباعا لما في النفوس من غريزة
الكشف عن المجهول و حب الاستطلاع . حتى و لو لم يكن وراء معرفة هذا
المجهول فائدة تذكر .. لكنها الغريزة ، و رغبة العلماء في إشباعها ..
فلا تجد مفسرا قديما أو حديثا إلا و ذكر ما وصل إليه في ذلك ، و لا مؤرخا
إسلاميا إلا و أدلى بدلوه في البحث عن هذا الاسم ، و ذكر ما وصل إليه من
أقوال مأثورة عن سابقيه .. حتى جاء في أوائل القرن العشرين "أبو الكلام
أزاد" عند هذه الآيات ، و هو يفسر القرآن الكريم ، فكان لابد له أن يقول
رأيه كذلك في ذي القرنين .
و كان أمامه حشد هائل من أقوال السابقين ، و كان من الممكن أن يكتفي بهذه
الأقوال ، و يختار منها كما فعل غيره ، و ينتهي . و لكنه لم يفعل .. لأنه
لم يقتنع بقول من أقوال السابقين ، كما لم يقبل أن يترك الموضوع يمر دون
بحث .
فخاض غمار الكشف عن المجهول بطريقته الخاصة ، و بما وفره الله له من عقل و
قدرة علي البحث ، و سعة الإطلاع . و قدم لنا أخيرا في تفسيره بحثا مطولا ،
وصل في نهايته إلى تعيين الاسم و المكان و الزمن الذي عاش فيه ذو القرنين
، و دعم كشفه هذا بمقارنة بين ما ذكره التاريخ عن هذا الرجل ، و ما ذكره
القرآن عنه . و وجود تطابق بين المصدرين ، مما لا يدع مجالا للشك في صحة
ما وصل إليه . و على غير عادة المفسرين ، رسم أزاد في تفسيره خريطة تبين
رحلات أو حروب ذي القرنين كما ذكرها القرآن ، و فصلتها كتب التاريخ القديم
لا سيما المصادر اليونانية التي أنصفت الرجل برغم ما كان بينه و بين
اليونان من عداء ..
علي أنه لم يكن وحده هو موضع التساؤل ، بل انضم إليه مكان السد الذي بناه
ذو القرنين أين هو ؟ ثم يأجوج و مأجوج و من يكونون ؟ فعني أزاد بالكشف عن
مكان السد ، و التعريف بيأجوج و مأجوج . و بين على الخريطة المنطقة التي
كانوا يعيشون فيها و الممر الذي كانوا ينحدرون منه للإغارة و الإفساد ، و
الذي بني ذو القرنين فيه السد ، ليمنع شر هؤلاء المغيرين ..
ماذا قاله المفسرون و المؤرخون ؟
و لكن قبل أن نتحدث عن بحوث أزاد ، يجدر بنا أن نعرض و لو ملخصا للآراء
التي ذكرها المفسرون و المؤرخون ، مع العلم بأن أكثر ما قالوه كان عن طريق
النقل بعضهم من بعض ، و إن كان لبعضهم آراء انفردوا بها ، و هي كلها مبنية
علي مجرد النقل ..
و على سبيل المثال:
يذكر تفسير الكشاف للزمخشري : أنه الإسكندر و قيل أنه عبد صالح . نبي .
ملك ، و ذكر رواية عن الرسول صلي الله عليه و سلم ، أنه سمي ذا القرنين
لأنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقا و غربا . و قيل كان لتاجه قرنان .
كان على رأسه ما يشبه القرنين ..
و الإمام ابن كثير : يذكر في تفسيره : أنه الإسكندر ثم يبطل هذا . كان في
زمن الخليل إبراهيم عليه السلام و طاف معه بالبيت . و قيل عبد صالح . و
أورد في تاريخه " البداية و النهاية " جـ 2 ص 102 مثل ذلك و زاد أنه نبي
أو مَلَك .
أما القرطبى في تفسيره فقد أورد أقوالا كثيرة أيضا : كان من أهل مصر و
اسمه " مرزبان " ، و نقل عن ابن هشام أنه الاسكندر ، كما نقل روايات عن
الرسول صلي الله عليه و سلم ، بأنه ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب . و
عن عمر و عن على رضي الله عنهما بأنه مَلَك .. أو عبد صالح و هي روايات
غير صحيحة . و قيل أنه الصعب بن ذي يزن الحميرى ، و كلها روايات و أقوال
تخمينية و لا سند لها .
أما الآلوسى في تفسيره ، فقد جمع الأقوال السابقة كلها تقريبا ، و قال :
لا يكاد يسلم فيها رأى ، ثم اختار أنه الاسكندر المقدوني و دافع عن رأيه
بأن تلمذته لأرسطو ، لا تمنع من أنه كان عبدا صالحا .. أما المفسرون
المحدثون فكانوا كذلك ينقلون عن الأقدمين .
موقف أزاد من هذه الأقوال
لم يرتض أزاد قولا من هذه الأقوال ، بل ردها ، و قال عنها: إنها قامت على
افتراض مخطيء لا يدعمه دليل ، و عنى بالرد على من يقول بأنه الإسكندر
المقدوني .. بأنه لا يمكن أن يكون هو المقصود بالذكر في القرآن ، إذ لا
تعرف له فتوحات بالمغرب ، كما لم يعرف عنه أنه بنى سدا ، ثم إنه ما كان
مؤمنا بالله ، و لا شفيقا عادلا مع الشعوب المغلوبة ، و تاريخه مدون معروف
.
كما عنى بالرد على من يقول بأنه عربي يمني .. بأن سبب النزول هو سؤال
اليهود للنبي عليه الصلاة و السلام عن ذي القرنين لتعجيزه و إحراجه. و لو
كان عربيا من اليمن لكان هناك احتمال قوي لدي اليهود- على الأقل- أن يكون
عند قريش علم به ، و بالتالي عند النبي صلى الله عليه و سلم ، فيصبح قصد
اليهود تعجيز الرسول عليه الصلاة و السلام غير وارد و لا محتمل . لكنهم
كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبر عنه ، و كانوا ينتظرون لذلك
عجزه عن الرد .. سواء قلنا بأنهم وجهوا السؤال مباشرة أو أوعزوا به
للمشركين في مكة ليوجهوه للرسول عليه الصلاة و السلام .
ثم قال : " و الحاصل أن المفسرين لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن ذي
القرنين ، القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق ، و المتأخرون حاولوه ، و لكن
كان نصيبهم الفشل . و لا عجب فالطريق الذي سلكوه كان طريقا خاطئا . لقد
صرحت الآثار بأن السؤال كان من قبل اليهود- وجهوه مباشرة أو أوعزوا لقريش
بتوجيهه -فكان لائقا بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهود و يبحثوا هل
يوجد فيها شيىء يلقي الضوء على شخصية ذي القرنين ، إنهم لو فعلوا ذلك
لفازوا بالحقيقة " .
لماذا ؟ لأن توجيه السؤال من اليهود للنبي عليه الصلاة و السلام لإعجازه
ينبىء عن أن لديهم في كتبهم و تاريخهم علما به ، مع تأكدهم بأن النبي عليه
الصلاة و السلام أو العرب لم يطلعوا علي ما جاء في كتبهم .. فكان الاتجاه
السليم هو البحث عن المصدر الذي أخذ منه اليهود علمهم بهذا الشخص .. و
مصدرهم الأول هو التوراة .
و أمسك أزاد بالخيط
و هذا هو الذي اتجه إليه أزاد ، و أمسك بالخيط الدقيق الذي وصل به إلي
الحقيقة .. و قرأ و بحث و وجد في الأسفار ، و ما ذكر فيها من رؤى للأنبياء
من بني إسرائيل و ما يشير إلى أصل التسمية : "ذي القرنين" أو "
لوقرانائيم" كما جاء في التوراة .. و ما يشير كذلك إلي الملك الذي أطلقوا
عليه هذه الكنية ، و هو الملك "كورش" أو "خورس " كما ذكرت التوراة و تكتب
أيضا "غورش" أو "قورش" .
هل يمكن الاعتماد علي التوراة وحدها ؟
يقول أزاد : " خطر في بالي لأول مرة هذا التفسير لذي القرنين في القرآن ،و
أنا أطالع سفر دانيال ثم اطلعت علي ما كتبه مؤرخو اليونان فرجح عندي هذا
الرأي ، و لكن شهادة أخري خارج التوراة لم تكن قد قامت بعد ، إذ لم يوجد
في كلام مؤرخي اليونان ما يلقي الضوء علي هذا اللقب .
تمثال كورش
ثم بعد سنوات لما تمكنت من مشاهدة آثار إيران القديمة و من مطالعة مؤلفات
علماء الآثار فيها زال الحجاب ، إذ ظهر كشف أثري قضي علي سائر الشكوك ،
فتقرر لدي بلا ريب أن المقصود بذي القرنين ليس إلا كورش نفسه فلا حاجة بعد
ذلك أن نبحث عن شخص آخر غيره " .
" إنه تمثال علي القامة الإنسانية ، ظهر فيه كورش ، و علي جانبيه جناحان ،
كجناحي العقاب ، و علي رأسه قرنان كقرني الكبش ، فهذا التمثال يثبت بلا شك
أن تصور "ذي القرنين" كان قد تولد عند كورش ، و لذلك نجد الملك في التمثال
و علي رأسه قرنان" أي أن التصور الذي خلقه أو أوجده اليهود للملك المنقذ
لهم "كورش" كان قد شاع و عرف حتى لدي كورش نفسه علي أنه الملك ذو القرنين
.. أي ذو التاج المثبت علي ما يشبه القرنين .. كما يتبين من صورة التمثال
.. سواء قلنا أنه صنع في عهده نفسه ، أو في عهد خلفائه ..
[IMG]