قطز ... الصائح: "وا إسلاماه"
كان سيف الدين قطز عبدًا لرجل يسمى "ابن العديم" بدمشق ثم بِيع من يدٍ إلى يد حتى انتهى إلى "عز الدين أيبك" من أمراء مماليك البيت الأيوبي بمصر. وتدرج في المناصب حتى صار قائدًا لجند أيبك، ثم قائدًا للجيوش عندما تولى "عز الدين أيبك" السلطنة مع شجرة الدر.
ثم صار وصيًا على ابنه "المنصور" بعد مقتله ومقتل زوجته شجرة الدر من بعده. وقد استشار كبار رجال الدولة والعلماء في أمور البلاد في حضور "المنصور"، وقد انصرف "المنصور" عن المجلس دون أن ينطق بكلمة، فأشاروا على "قطز" بعزله وتولي أمر البلاد؛ فاستجاب لهم وعزل "المنصور"، وقام باعتقال مجموعة من أمراء المماليك الموالين لعز الدين أيبك وابنه، ووضع على قيادة الجيوش ركن "الدين بيبرس".
ويروي شمس الدين الجزري في تاريخه عن "سيف الدين قطز": ".. لما كان في رِقِّ ابن العديم بدمشق، ضربه سيده وسبَّه بأبيه وجده، فبكى ولم يأكل شيئًا سائر يومه، فأمر سيده الفرّاش أن يترضاه ويطعمه، فروى الفرّاش أنه جاءه بالطعام وقال له: كل هذا البكاء من لطمة؟ فقال قطز: إنما بكائي من سَبِّه لأبي وجدي وهما خير منه؛ فقلت: من أبوك؟ واحد كافر؟!.. فقال: والله ما أنا إلا مسلم ابن مسلم، أنا محمود بن ممدود ابن أخت خوارزم شاه من أولاد الملوك، فسكت وترضيته" كما يروي أنه أخبر في صغره أحد أقرانه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد بشَّره بأنه سيملك مصر ويكسر التتار، ومثل هذه الروايات- وإن كان الشك يحوطها- تعني أن الرجل كان يعتبر نفسه صاحب مهمة، وأن له دورًا في صناعة التاريخ، وتغيير الواقع الأسيف الذي يحيط به من كل جانب.
مُلك مصر
لقد وصل "سيف الدين قطز" للسلطة في مصر والأخبار تتوالى عن اقتحام التتار للشام، واستباحتهم للمدينة تلو الأخرى في طريقهم إلى مصر، وما لبثت رسلهم أن وقفت أمام "قطز" وهو في أيامه الأولى على عرشه تقرأ الرسالة التالية: "من ملك الملوك شرقًا وغربًا، القائد الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء، نُعلم أمير مصر "قطز"، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذه الأرض، بعد أن ابتاعوا إلى التجار بأبخس الأثمان أما بعد.. "فإنا نعبد الله في أرضه، خلقنا من سخطه، يسلطنا على من يشاء من خلقه، فسلموا إلينا الأمر؛ تسلموا، قبل أن ينكشف الغطاء؛ فتندموا، وقد سمعتم. أننا أخربنا البلاد، وقتلنا العباد، فكيف لكم الهرب،؟! ولنا خلفكم الطلب، فما لكم من سيوفنا خلاص، وأنتم معنا في الأقفاص، خيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، فقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، ومن تأخر عنا سلم. .. فلا تهلكوا أنفكسم بأيديكم، فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم فجرة، والله يلقي الكفرة على الفجرة.."
وحذره في آخر الرسالة من أن يلقى مصير الخلافة العباسية المنكوبة في بغداد، فما كان من قطز إلا أن حبس الرسل حينًا، وأرسل يستشير الأمراء والعلماء. وفي ذات الوقت انتشر الهلع بين الناس، وشرع المغاربة في الرحيل تجاه الغرب، وآخرون رحلوا إلى الحجاز واليمن- فأشار الجميع بضرورة الخروج لملاقاة التتار، وإلا خربت البلاد بسبب الهلع والخوف قبل أن يخربها التتار بدخولها.
وهنا وقف العلماء وعلى رأسهم الشيخ "العز بن عبد السلام" رحمه الله- أمام الأمراء وقادة الجند، وهم في سبيلهم لجمع الأموال للإعداد للحرب، فقرروا ألا يؤخذ من الناس شيئًا إلا إذا كان بيت المال فراغًا، وأخرج الأمراء والتجار وأغنياء الناس من أموالهم وذهبهم وتساوى الجميع، فنزل قطز على حكم العلماء ممّا أحدث جفوة مع بعض الأمراء.
وتوجه قطز إلى رسل هولاكو فوسّطهم (أي قتلهم بأن ضربهم بالسيف ففصل أجسادهم من وسطها) وعلَّقهم على أبواب القاهرة؛ رغم أن الرسل لا يُقتلون، ولكنه أراد أن يشعر الناس بقوة وهيبة دولته. وجاء الخبر بوقوع أمير دمشق في قبضة هولاكو، وأن جموع التتار استباحت مدن الشام تعيث فيها فسادًا وتهتك الحرمات، وتنهب الثروات، فكان لا بد من سرعة التحرك لوقف الزحف المرتقب على مصر.
نادى "قطز" في البلاد للخروج لحرب التتار، فاستجاب له جند من مصر ومن الشام، واجتمع تحت يديه قرابة الأربعين ألفًا من الجند، فتقدم بهم إلى منطقة البقاع إلى أرض الشام. فوصل الخبر لأحد قادة التتار بالشام ويسمى "كتبغا نوين"، واستشار من حوله فاختلفوا فمنهم من رأى أن يتمهل حتى يصل إليه مدد من "هولاكو"، ومنهم من رأى أن يسرع بلقائه قبل أن يجتمع حول "قطز" الجند الفارون من الحرب السابقة؛ فتزيد خطورة الموقف. فاستجاب للرأي الأخير وذلك "ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً".
فتقدم "كتبغا نوين" من جيش قطز، فتلاقيا عند "عين جالوت" من أرض فلسطين، وقد كان ذلك في 25 رمضان 658هـ - 6 سبتمبر 1260م.
عين جالوت
واشتعل القتال بين الطرفين، والمسلمون الأقل عددًا يحاولون أن يوقفوا هجمات التتار الشرسة، وضغط التتار على ميسرة جيش المسلمين فانكسرت، فما كان من "قطز" وقائد جيوشه "بيبرس" إلا أن التفا من الخلف مع فريق من المقاتلين ليمنعوا التفاف جيش المغول حول المسلمين، ونجحوا في نهاية اليوم في وقف هجمة المغول من هذا الجانب؛ ولكن بعد خسارة كبيرة. وبدأ اليوم الثاني: واستمر القتال فيه سجالاً بين الطرفين. وفي مطلع اليوم الثالث: خطب "قطز" في جيشه يرغبهم في الجنة. ويُحسن لهم الموت في سبيل الله، وما أن اشتعل القتال حتى انطلق جيش التتار في حملة شديدة كادوا أن يكسروا فيها جيش المسلمين، فما أن رأى قطز ذلك حتى نزل عن فرسه وضرب عنقه، وخلع عنه خوذته في وسط ميدان المعركة صائحًا "واإسلاماه" وثبت معه طائفة من الفرسان الأشداء، فما لبث أن عاد الفارون من الميدان إلى المعركة من جديد، ونزل أحد الفرسان عن فرسه ليركبه قطز، فرفض صائحًا: ما كنت أمنع نفعك عن المسلمين الآن (يقصد أن في هذا الموقف لكل فرد دور يجب أن يؤديه، وأن استمرار الفارس في ركوبه لفرسه أنفع من ركوبه هو وخروجه من هذا الموقف) فإذا بجند الإسلام ينقضون على جيش التتار، فتنكسر هجمة التتار وتتخلخل صفوفهم، فيشرع "كتبغا نوين" في قيادة جنوده بنفسه وينزل إلى ساحة المعركة، ولكن سيوف المسلمين تقتلع شره وتقضي عليه، فينهزم جيش التتار لأول مرة في المعركة، ولأول مرة منذ خروجهم لغزو أمة الإسلام. ويقود "بيبرس" مجموعة من الفرسان الأشداء ويتبعهم حتى يقضي على بقيتهم، وانطلق "قطز" بجيشه إلى "بيسان" من الشام حيث كان اللقاء الثاني مع التتار، وقد كانت سيوف المسلمين ذاقت دماء التتار في الوقعة الأولى وعرفت طريقها إلى رقابهم، فكان في هذا اللقاء مثل ما كان في اللقاء الأول، وانهزم جيش التتار، وتبعهم أيضًا "بيبرس" حتى دمشق، ففروا أمامه وتركوا ما كان في أيديهم من الأسرى المسلمين.
وزال خطرهم عن مصر والشام إلى حين (حيث تكررت محاولتهم مرة ثانية ولكن في عهد حكم بيبرس، وقد قضى عليهم تمامًا في هذه المرة) واستقر حكم "قطز" في كل من مصر والشام، وخضع أمراء البيت الأيوبي لسلطان قطز، ونظم شئون الشام، وقد كان وعد قائده "بيبرس" بحكم حلب؛ ولكنه أخلف وعده وأعطاها لآخر. وبدأ رحلة العودة، وأرسل البشير إلى القاهرة بانتصاره، وقد كان "قطز" كما قيل: أحسنتَ ظنَك بالأيام إذ حسنتولم تخفْ غبَّ ما يأتي به القدرُ وسالمتْك الليالي فاغتررت بهاوعند صفو الليالي يحدث الكدر إذ تآمر عليه أمراء المماليك وعلى رأسهم قائد جنده ووضع على قيادة الجيش "ركن الدين بيبرس"!! فما أن خلى "قطز" لبعض شأنه حتى التفوا حوله فقتلوه!! وكان ذلك بالقرب من الصالحية في 16 من ذي القعدة عام 658هـ/ 1260م، وبالرغم أن فترة حكمه لم تتعدَ العام، إلا أنها ستبقى حاضرة في ذاكرة المسلمين عزة.. وكرامة.. ونصرًا..