إلى الذين يقرؤون آيات القصص كما تقرأ الحكايات والروايات . إلى الذين يتغنون بآيات القصص بينما يخصصون التدبر والتفكر لأقوال فلان وفلان . إلى هؤلاء نقول : تعالوا معنا لنتدبر آيات القصص ، وستجدون أنها هي الأولى بالتدبر والتفكر ، كما أنها تتجاوز حدود الزمان والمكان . وانظروا معنا إلى الآيات التالية :
يقول تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا . إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا . ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا . كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا . ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا . قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا . آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا . قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا )
ورغم أن القصص القرآني لا يحتاج إلى التأصيل التاريخي ، إلا أن تفسير هذه القصة يتطلب ذلك .
لقد تعددت الآراء بشأن شخصية ذي القرنين . ورغم ذلك فإن المطلعين على تاريخ الشرق القديم لن يجدوا صعوبة في التسليم بأن القصة تتحدث عن الملك الفارسي " قورش " ( 558 ق.م - 530 ق.م ) .
وقد يتساءل البعض عن سبب الرمزية والغموض الجذاب الذي يطبع القصة ؟ والواقع أن هذا الغموض يجعلنا نلجأ إلى الرواية التي نقلت بشأن سبب نزول القصة ، حيث روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة للسؤال عن محمد صلى الله عليه وسلم وإخبارهم بصفاته وأقواله ، باعتبارهم أهل كتاب وعندهم ما ليس عند قريش من علم الأنبياء . فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألا أحبار المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره وبعض قوله ، فقالوا لهما : سلوه عن ثلاث ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقوِّل . سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؟ . فإنه كان لهم أمر عجيب ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان نبؤه ؟ وسلوه عن الروح ما هو ؟ فأقبلا حتى قدما على قريش فقالا : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد . فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال : أخبركم غداً بما سألتم عنه ، ولم يستثن ( لم يقل إن شاء الله ) . فانصرفوا ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك إليه وحياً ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ( خاضوا في الأخبار السيئة ) وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاءه جبريل بسورة الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ( أصحاب الكهف ) - وفيها [ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً . إلا أن يشاء الله ] - والرجل الطواف ( ذو القرنين ) . وجاء جواب سؤالهم عن الروح في السورة السابقة لسورة الكهف وهي سورة الإسراء .
ولما كان لا يوجد علاقة خاصة بين اليهود وأصحاب الكهف أو الروح فقد أتى جواب القرآن على هاتين المسألتين خالياً من الغموض والرمزية . أما في قصة ذي القرنين فقد حمل الجواب قدراً من الغموض والرمزية ، لأن لليهود علاقة خاصة بتلك القصة . فذو القرنين ( قورش ) هو الذي خلص اليهود من السبي وسمح لهم بالعودة إلى فلسطين وأمر بإعادة بناء معبدهم عام 538 ق.م ، بعد أن كان نبوخذ نصر قد دمر القدس وسبا بني إسرائيل إلى بابل . وقد وردت الإشادة بقورش في أسفار عزرا ( 1 : 1-3 ) وإشعياء ( 44 : 28 ) و ( 45 : 1-3 ) .
وحين نتأمل موقف أحبار اليهود من تساؤل كفار قريش فإننا نستطيع أن نلمس أنهم لم يهتموا بالأمر إلا بالقدر الذي يظهر علمهم وقدرتهم . وآية ذلك أنهم حولوا المسألة إلى ما يشبه الألغاز والأحجيات بدل أن تكون مدخلاً للبحث عن الحق والسعي إليه . ومن ناحية أخرى فإن كفار قريش لم يكن لهم علم بإجابات الأسئلة التي طرحوها على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالقدر الذي أوضحه لهم أحبار اليهود ، هذا إن كانوا قد أوضحوا شيئاً . أي أن الطرف الأصيل في موضوع الأسئلة ليسوا كفار قريش ، بل اليهود . وكما أشرنا فإن السياق الذي يمكن وضع أسئلتهم في إطاره هو سياق التذاكي والتعالم لا سياق البحث الصادق والمباشر عن الحق . ومن ثم فقد استهدفت الآيات - في تقديرنا - الرد على ذلك التذاكي والتعالم ، ليس في كل الموضوعات التي تضمنتها الأسئلة ، بل في الموضوع الذي ظن اليهود أنهم الأعلم والأوثق صلة به . حيث لم يتم التعرض لقصة قورش مع اليهود ، بل تمت الإشارة إلى الأحـداث الأخرى الهامة التي حفلت بها قصته . وبالتالي فإن من كان يقصد من أحبار اليهود مجرد السخرية والاستهزاء والتذاكي والتعالم فإن القصة ترد كل ذلك إليه . أما من كان يقصد البحث عن الحق فإنه لن يعوزه سوى القليل من الجهد للتحقق من أن القرآن الكريم قد أجاب على سؤاله .
وحيث أن التفسير الصحيح للقصة يتطلب الإحاطة بجانبها التاريخي ، لذا فإن من المهم عرض ذلك الجانب ، وذلك باختصار غير مخل .
يعد قورش مؤسس أقدم دولة في فارس ، وهي الدولة التي يسميها الفرس الدولة الهخامنشية ، بينما يسميها اليونانيون الدولة الأخمينية . وكان قورش زعيماً لإحدى القبائل التي تسكن إقليم فارس التابع لحكم الدولة الميدية ، وهي الدولة التي كانت تمتد عبر الأراضي الواقعة إلى الجنوب الغربي من بحر قزوين . وقد سخط أهل فارس عليهم لظلمهم واستبدادهم ، فسعوا إلى قورش ليحكمهم ويخلصهم من ظلم الميديين ، فتحالف قورش مع نبونيد ملك بابل ، فغضب أزتياج ملك الميديين من هذا التحالف الموجه ضـده ، وطلب من قورش الحضور إليه لتبرير موقفه ، ولكن قورش رفض الطلب ، فاعتزم الملك الميدي القضاء على هذا العصيان بالقوة ، ووقعت حرب بين الطرفين تمكن قورش من الانتصار فيها ، وأخذ الملك أسيراً وعامله معاملة حسنة وكريمة . وبانتصاره وحد قورش بين الشعبين الفارسي والميدي مقيماً الإمبراطورية الأخمينية . ثم بدأ قورش بعد ذلك يتوغل باتجاه الغرب ، وعندما اجتاز نهر الهاليس ليهاجم مملكة ليديا الواقعة في القسم الشرقي من بلاد الأناضول أحس حلفاء ليديا ( حكام بابل ومصر واسبارطة ) بعظم الخطر الذي يتهددهم . وبعد معركة متكافئة بين جيش قورش والجيش الليدي ظن كرويسوس ملك ليديا أن قورش لن يتابع الحرب في فصل الشتاء فانسحب باتجاه عاصمته سارديس ، ولكن قورش لحق به ، ووقعت المعركة عند أبواب العاصمة ، واستطاع جيش قـورش هزيمة الجيش الليدي واحتلال سارديس عاصمة ليديـا عام 546 ق.م [ تشير المراجع التاريخية إلى أن مدينة سارديس كانت على درجة كبيرة من الازدهار والبهاء المادي ، حتى أن اليونانيين كانوا يسمون أشياءهم النفيسة باسم سارديس الذهبية ] إلا أن قورش عامل ملكها معاملة حسنة . ثم استولى بعد ذلك على المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى وعلى الكثير من الجزر اليونانية . ويذكر المؤرخون أن انتصارات قورش لم تكن ترافقها الأعمال الدموية أو أعمال التدمير التي كانت متبعة في ذلك العصر ، بل كان يشفق على الشعوب المغلوبة ويحسن معاملتها ويحترم عقائدها الدينية غاية الاحترام .
وبعد هذه الرحلة من الفتوحات باتجاه الغرب قفل قورش راجعاً باتجاه الشرق ، وظل يفتح البلاد الشرقية فيما بين عامي ( 545 ) و ( 539 ق . م ) حتى وصلت حدود إمبراطوريته إلى نهر السند . ثم عاد راجعاً باتجاه بابل واستطاع فتحها . وقد أظهر الكثير من الاحترام لعقائد أهل بابل الدينية ، وعامل جميع السكان والأسرى معاملة حسنة ، ولم يحاول تغيير أوضاعهم العامة وأنظمتهم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية . ثم أصدر عام 538 ق.م أمره بإعادة بناء المعبد في القدس والسماح لليهود بالعودة إلى فلسطين . وقد أتاح فتح بابل فرصة السيطرة على كافة البلاد التي كانت خاضعة لها ، وبذلك شمل نفوذ قورش بلاد ما بين النهرين وسورية وفلسطين . ثم اتجه إلى الشمال الشرقي من امبراطوريته حيث حاول صد الهجمات التي كانت تقوم بها قبائل الماساجيت البربرية ، وهي قبائل تسكن فيما بين بحر قزوين وبحيرة آرال . وتذكر بعض المراجع أنه قد أقام خط دفاع لحماية الحدود الشمالية الشرقية لبلاده من غارات تلك القبائل . وفي حين تذكر بعض الروايات التاريخية أنه قد لقي حتفه في إحدى المعارك التي خاضها ضد تلك القبائل ، تؤكد روايات أخرى أنه قد مات ميتة طبيعية في قصره